Shakira

مجموعة قصص قصيرة نشر معظمها في جسد الثقافة مابين 2003-2005

الأحد، ربيع الأول ٠١، ١٤٢٦

يوميّات أم





ماما لا تنسي الكراريس والألوان
طيب يا روحي ..)
روحي ..؟
كأنكـ انتزعت مني جزءاً من روحي ..




* * *


في الشهر الأول لم أدري بكـ وأنتَ تتسلل إليّ كـ فايروس صغير ..
أتعبتني ...
أمرضتني ..
قلبت ليلي نهارا ونهاري ليلا
فجأة صرت أرى الدنيا من ثقب إبرة ..
كرهت الروائح الجميلة والعطور
أدخل الصيدليات لأسأل الصيدلي عن صابون غير معطر ، وكريم غير معطر ، وشامبو غير معطر
غثيان شديد ..
ومعدة لا تستطيب الزاد ولا حتى الماء

الطبيبة تنظر إليّ وكأنني حالة ميئوس منها ..
تهز كتفيها في لا مبالاة
الأمر طبيعي بالنسبة لي
ولا أملك لك سوى هذا البرمبران .. تحاميل ..


* * *


انتظر أذان المغرب في رمضان من أجل تمرة واحدة وتحميلة ووهن عظيم في بدني وروحي
متى يا روحي تمضي الأشهر الثلاثة الأولى
متى تنتفض يداك الصغيرة وقدماك الصغيرتان لأعرف أن روحكـ دبتْ في احشائي..
خذ معك قليلا من روحي
خذ معك حفنة من دمي
خذ معك ما تشاء من الحديد والكالسيوم والفوسفور

(كلي سمكـ كتير ..
أنا ما أحب السمك
يطلع ذكي
طيب آكل سمك وحيات كمان ) ..!

(اشربي حليب ..
ما أحب الحليب
تطلع عظامه قوية
طيب أشرب حليب وآكل إقط كمان !)


* * *


صرت أتحاشى النظر إلى مرآتي ..
وجهي لم يعد هو ..
تقاسيمه تغيرت
صار أكثر شحوبا
جسدى لم يعد هو صار أكثر امتلاء
صرت أرتدي الملابس الفضفاضة
وحشرت قمصاني الملونة في الركن القصي من خزانتي
اتساءل بيني وبين نفسي
هل سأرتديها يوما
هل سيعود جسمي الى سابق عهده القديم ؟
اتساءل هل سيتقزز مني لو رأى تلك التشققات في جسدي ..!


* * *

(مبروك ولد ..)
ومين سألك ؟؟ قلت للطبيبة في عتاب
أردتكـ مفاجأة وأرادت ان تنقلك لي كمفاجأة
ولد ..بنت ...كله طيب

لا تمشي كثيرا ولا تتحركي في الشهر السادس
انتظري حتى السابع ،
تعبت من الإبر ومن الإستلقاء على ظهري ..
تعبت ..ووهن العظم منى
اشعر أن عظامي مسحوقة
وأن أحشائي متختلطة ببعضها
معدتي صارت لا تستقبل الطعام
وعدنا لسالفة الحرقان في المعدة

متى تخرج يالله ؟؟
متى تفارق ؟؟
خذ قطعة من روحى واخرج غير مطرود
خذ ليترات من دمي واخرج يا روحي


* * *


احذري الشهر الثامن ..
يموت الخديج في الثامن في أكثر الحالات
بسم الله عليك
بسم الله عليك
تعبت عليك
والله تعبت عليك
عدد أصابع اليد توقظني من نومي وتجبرني ع الحمام
عدد أصابع اليد أفيق وأتأكد أن النافذة مفتوحة
وأن الغرفة فيها أكسجين
عدد أصابع اليد أجد صعوبة في أن أتقلب من اليمين الى اليسار
صرت مثل بالونة
من يدحرجني ؟؟


* * *


أول يوم في الشهر التاسع هلْ
وتباشير قدومك لمهدك سـ تطلْ

امشي كتير
روحي عند سور الحوامل وامشي كتير
والله تعبت
حر ورطوبة والعباءة تخنقني ..
امشي في السطوح
ملل وزهق
امشي في الحوش ..!!


* * *


اتأخر موعد قدومه ..
ما تقولين كذا ..كل شيء بأوانه
كلكم تقولون كذا
عشان اللي يده في الماي مش زي اللي يده في النار
كل شيء بأوانه
ما ينزل الرطب قبل لا يستوى
وما يستوى الا مع الحر ...
حر وتعب
وهن ومن فوقه وهن
ساعدوني
أول مرة أكتشف أنها تجربتي وحدي
أخوضها معك وحدي
انا وأنت
إما أننجح سويا أو نفشل سويا
لا تخذلني يا صغيري
you can make it
تجربة جميلة كـ الموت تماما
الفرق أنك حين تنزل باكيا أضحك أنا وأرتاح ...


* * *


أرح ماما يا صغيري وفارق ..
خذ روحي وفارق
خذ عيني وفارق....

ألم يظهر ويختفي ...
نبضات سريعة مؤلمة كأنها اشارات لإنفصال مكوك عن أمه !
هل ستنفصل عني الآن ؟
آلام تظهر وتختفي
تظهر وتختفي
تزيد في قوتها يا صغيري ..؟


لا أتصور أن لقدومك كل هذه الضراوة ..؟
ولا أفهم معنى أن تقول الطبيبة أن انتكاسة رأسك قد اكتملت .. وأن بوابة خروجكـ ليست على مصراعيها ...
3 سنتيمترات ..4 سنتيمترات ..5 سنتيمترات
ماذا تقيس بأصابعها تلك الممرضة الصارمة ؟ وكم سنتيميترا يلزمكـَ لتترفق بأمك يا صغيري؟؟
تخرج الممرضة وتتركني وحيدة معك ..
مقيدة فوق هذا السرير بكَـ ..إما حياتنا معاً .. أو رحيل أحدنا أو رحيلنا معاً..

* * *

تك تك تك تك
صوت نبضات قلبك الصغير في الغرفة وأنا وحدي كأنها طرقات تلك السواني القديمة في بساتين المدينة ...
اسلاك حول معصمي تقيدني بالسرير فلا أقوى على الحراك ، شريط قاس حول هضبة بطني وحول خصري .. !
أين هو خصري ..؟
أحاول النهوض من سريري لأمشي ، فتهاجمني نوبة ألم ضارية فأسقط مرة أخرى طريحة سريري ...
يختفي صوت السانية فأجزع ..
أضغط على الجرس جزعاً عليك ...
لماذا توقفت نبضات قلب صغيرى ؟؟؟ هل حدث له مكروه ..
تنظر الممرضة الى قراءة الجهاز بقربي وتبتسم في تبلد غريب..
اطمئني ..
متى أرتاح ..؟
أسألها بضراعة مع علمي أن أحدا هنا في هذا المكان لا يملك لي ولا لك شيئاً ..!
اهدئي .. يبدو أن صغيرك ينتظر بزوغ الشمس ..!
أنا هنا منذ الثامنة مساءً وشروق الشمس سيأتي بعد 3 ساعات ، وقد لا يأتي ..!
استغفر الله ...
اتحسس هضبتي وأنقش عليها بأصابعي الواهنة
اذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت ..
متى تنشق الهضبة عن صرختك الأولى ..متى ..؟
متى يتوقف هذا الألم الحثيث ، حثيث ؟ بل هو غثيث ومُهلك !
يزداد أكثر وأكثر
أفقد قدرتي على التظاهر بالقوة والصبر ..
صرت أقرب الى الخذلان والضعف والجزع ..أخشى أن يسمع صغيري بكائي فيجزع مثلي ..
أكمم فمي بالوسادة .. أحشرها في فمي ، لكني أصرخ .. أصرخ ..أصرخ ..
تضع الممرضة قناع المخدر على وجهي وتطلب مني أن استنشق منه بعمق
استنشق منه بعمق ، فيأتيني صراخي بعيييييدا كأنه صيحات لموتى آتية من واد سحيق
يتضاءل الألم وينكمش في نقطة واحدة حتى يكاد يفتك بها ..
ألم لا يطاق ..
تبعد قناع المخدرعن وجهي ، فأفتح عيني ويغشاني ضوء الغرفة ..
أين كنت ؟ كم الساعة ؟؟
لم تمض سوى دقائق يا سيدتي
اهدئي ..كل شيء على ما يرام
حاولي أن تنامي
تتكلم معي وكأنها انسان آلي ، كأنها لا تحس ما بي ، تغرز في وريدي ابرة أخرى وتقيس ...
كم سنتيمترا بيني وبينه .. ؟
(بقي سنتيمتر واحد وأعبر بك الى كشك الولادة ..)
وربما لن أعبر غير هذا الشارع الذي يفصل بين المستشفى والمقبرة ...
سأموت يا ......يا ........ ما اسمكـ من فضلك ؟

* * *

مرة أخرى تضع المخدر على أنفي ، فأستنشق منه بقوة ويندمل صراخي ، يستحيل صرخة بعيدة مشلولة ، أسمعها وحدي ولا يسمعها أحد ..
مسكين صغيرى ..ليتني أحتمل من أجله
قبل أيام كنت أتلو بين يديه ما تيسر من سورة يوسف
وبالليل كنت أغني له ليهدأ وينام ، وليقلع عن هواية الركل وأنا نائمة ..

أين أنا الآن ..؟؟
أصوات بعييييييييدة تتحدث وتتحاور .. هل خرجت روحي ؟؟
أهذا صوت أمي يبكيني مع أخوتي ؟ لم أعد استطيع التمييز ..
لماذا يحملونني وإلى أين يذهبون بي ..
ربما الى المغسلة ليغسلوني ..
لم أعد أفهم ما يدور حولي .. أحاول أن افتح عيني لأرى ما يدور حولي فلا أستطيع ..!
أحاول أن أحرك يدي لأميط المخدر عن وجهي فلا أقدر ..
ساقاي معلقتان في الهواء وأنا مشلولة أنتظر قضاء الله فيّ مثل ذبيحة تنتظر السلخ !
اصوات بعيدة ونداءات ..
من يناديني ...؟
تبعد الممرضة القناع عن وجهي ..افتح عيني .. فتتدفق شلالات الألم مرة أخرى بكل ضراوتها ..
اصرخ .. أصرخ ,,
(ابعدي المخدر عنها يجب أن تفيق لتساعدنا ..
ادفعي ..)
لا استطيع ..
ادفعيه خارجاً
ألقي بصغيرك الى يمّ الحياة
الفظيه بعيدا عن برزخك ..
لا أستطيع .. كأنه يتشبث بي .. كأنه أعتاد دفئي ..

يد دافئة تضغط على يدى ، ألتفت نحوها فإذا به وجه أمي تترقرق عيناه بالدمع وتتصبب من جبينه حباتُ العرق ..
أهذا ما جنيته عليكِ يا أمي ..؟
سامحيني
سااااااااامحيني
لو أملك أن اتحرك من مكاني لقبلت قدميك ،
لو أستطيع أن أحرك ذراعي لأحتضنتك ، أو حتى شفتيّ لقبّلتك
أخشى أني متُ وأن روحي هي التي تنظر اليك من الأعلى !

لم يبق بيني وبين الملكين اللذين سيسألانني سوى أن تغسلوني وتكفنوني ..
أفكر ماذا سأقول لربي عندما ألقاه ..
يارب .. لا ألقاك بغير حسنة واحدة عملتها في حياتي وهي حسن ظني بك
ولا أظن شيئا غير حسن ظني بك ينفعني ..!
يا رب جئتك من دنيا كنتُ احسبها باقية فإذا بها فانية
واذا بكل شيء فانٍ الا وجهكـَ الكريم
يارب أحتمي بوجهكـ الكريم وألوذ بعفوك من نار دنياك الى برد آخرتك
هذه أمي تبكيني وهذا صغيري يتشبث بالحياة ..
ان كنت كتبت لي الفناء فاكتب لصغيري الحياة من بعدي

* * *

صرخة أخرى لا تشبه صرختي تنبعث من المكان ..
ضحكات وبكاء وتنهيدات
أصوات كثيرة من حولي و رأيته يتدلى في يدها مثل عنقود عنب شهي
رأسه المنكس الى الأسفل وقدميه الى الأعلى وحبل غليظ يربط بيننا ..
قصّت منه حبل أمومتي ، ثم رمته على صدري ..
أجمل ارتطام بين جسدين كان ارتطامه بي
وأخيرا يا صغيري ....



© شاكي Shaki